Advertisement

Main Ad

لاهوت الضجر..


أحيانًا،
تتآمر التفاصيل الصغيرة ضدك.
فنجانٌ في غير موضعه،
صوتُ ساعةٍ لا تراها،
ظلٌّ يتحرك في زاوية الغرفة،
كلها تقول لك الشيء نفسه:
أنت هنا أكثر مما ينبغي.

لم تكن تحب كلمة هنا.
كانت ضيقة،
مثل كرسيٍّ صُمِّمَ لظهرٍ آخر.

في مدينتك،
لم يكن هناك طقوس حقيقية.
لا أماكن منتظمة،
لا مواعيد مقدسة،
فقط محاولاتٌ خجولة لترتيب الفوضى،
وكان ترتيبها يُغضب الجميع.

كانوا يقولون:
«الحياة لا تُؤخذ هكذا».
وأنت لا تفهم:
كيف تُؤخذ إذًا؟
بالجدية؟
بالضجيج؟
بالاندماج القسري في حشودٍ لا تنتبه لخطواتها؟

أبوك كان يؤمن بالمعرفة كدرع.
العارف لا يُكسر.
العارف لا يُسأل.
العارف ينجو.

وأنت،
لم تكن تريد النجاة.
بقدر ما كنت تريد أن تُترك وشأنك،
أن تجلس في منتصف الطريق
دون أن تُطالَب بالاختيار.

كنت تسأل أسئلة لا تبحث عن إجابة،
بل عن صدع صغير في الجدار.
ثغرة تسمح للشك
أن يتنفس.

كنت تلاحظ الأشياء التي لا يراها الآخرون،
لا لأنك أذكى،
بل لأنك أبطأ.

تبقى طويلًا أمام نافذة،
تراقب شخصًا يعبر الشارع،
ليس لأنه مهم،
بل لأن عبوره حدثٌ كافٍ ليملأ دقيقة كاملة.

الملل لم يكن فراغًا.
كان مادة.
كثيفة.
قابلة للتشكيل.

كنت تتنفس بوعيٍ مبالغ فيه،
كأنك تخشى أن يُنسى هذا الفعل،
كأن أحدًا قد يقرر فجأة
أن الهواء ترفٌ غير ضروري.

تحب أن تسمع صوت صدرك من الداخل،
ذلك الاحتكاك البسيط
الذي يذكّرك أنك لم تختفِ بعد،
حتى لو تصرّف العالم
وكأنك تفعل.

في مرحلةٍ ما،
اكتشفت أنك تحفظ اسمك كاملًا،
لكنك لا تستخدمه.
كأنه اسمٌ لحياةٍ موازية،
أكثر التزامًا،
أكثر قابلية للتفسير.

اسمٌ يصلح للوثائق،
لا للأرق.

قرأتَ ذات مرة عن رجل
امتلك قدرة العبور عبر الأشياء،
لكن العبور خانه.
علق في جدار.
لا ميت،
ولا حيّ بالقدر الكافي.

لم تخف من القصة.
أعجبتك.

الفكرة ليست في العبور،
بل في التوقف النهائي،
في أن تصبح جزءًا من شيء
لا يُنتظر منه أي تطور.

أن تكون خطأً ثابتًا.

في بلادك،
كانوا يحبون الأرقام الكبيرة،
الألقاب الفارغة،
القصص التي تبدأ من الصفر
وتنتهي بالتصفيق.

وأنت صنعت رقمك الخاص،
رقمًا بلا دلالة بطولية،
مجرد ترتيب مؤقت
في طابور لا يسأل عن أسمائك.

رقمك يتغير،
لكن الشعور لا يفعل.

تضحك أحيانًا،
لا لأن الأمر مضحك،
بل لأن الضحك
أقرب الأصوات للحياد.

ثم تصمت.
والصمت هنا ليس حكمة،
بل اختبار.
هل لا يزال الجسد يعمل؟
هل التنفس مستمر؟
نعم.
حسنا اذا.

قالت لك مرة،
بعد عدة لقاءات مترددة:
«فيك شيء مختلف…
يصعب الإمساك به.. ممل باثارة». 

اعتذرت فورًا،
كأنها اقترفت زلّة لغوية.

لكنك شعرت بالمديح.

ليس كلُّ أحد
يُتقن الملل.
ليس كلُّ أحد
يصمد في المساحة الرمادية
دون أن يطالبها بلون.

ربما لا تكون إلهًا.
ربما تكون مجرد أثر جانبي
لعالمٍ يبالغ في الحركة.

لكن إن كان لا بد من طوطم،
فليكن هذا:
أن تبقى دون وعد.
أن تترك فيك منطقة
لا تصلها اللغة.

أن تكون الضجر
حين يتعب الآخرون من لعب الأدوار.

 

-M.