Advertisement

Main Ad

في رحلة الحياة عبر اللاجدوى.. إلى أين ننتهي؟

  تقتادني أمواج من الأفكار في بحر فسيح للأحداث دون أي معرفة إلى أين انتهي؟ لكن مع الوقت قل اكتراثي لغرقي المستمر في هذه الأفكار، ولم يعد يعتريني أي خوف تجاه حقيقة هذه التجربة التي قد تنتهي خلالها رحلتي في هذا الوجود في أي لحظة.. أمّا الأمر الذي يزعجني حقا هو انصياعي البائس لشعور (اللاجدوى)
- أُحدث نفسي وأمواج أفكاري ترمي بي مسارات مختلفة، لتجعلني متسائلا: ما جدوى معرفة الاتجاه؟ في الحقيقة إنه سؤال أثقل على كياني من أمر الغرق في حد ذاته.
أعلم أن شعور اللاجدوى واقعي و صريح ، لكن ذلك لا يقلل من قسوته ومرارته، إنه يثبط همتي ويكسر كل شغف يراودني. أستسلم له كلما حاولت المقاومة، ولا أدري ماذا يمكنني أن أفعل به؟
اعلم أيضا أن التصورات الإنسانية لهذا الوجود عديدة و مختلفة، فكل واحد منا يميل لتصور معين. كثير منا ينسحق تحت تصوره فيستسلم ويخضع له، وقليل منا يجتهد للحفاظ على مسافة بين نفسه وتصوره، يستند عليه حينا، ويتحقق منه وينقده في حين آخر. لكن في الحقيقة جميعنا يسعى عبر تصوره الخاص إلى ملء “فراغ” داخله يؤرقه تجاه ماهية هذا الأمر الذي فوجئنا بوجودنا داخله.
أميل إلى تلك القلة التي تحاول الحفاظ على مسافة بينها وبين تصوراتها، غير أنني عاجز عن تحديد موقف تجاه المستسلمين، لا أعرف هل هم جديرون بالإشادة أم فشل هو ما يفعلون؟ أعتقد أحيانا أن الفشل فيّ، أنا غير القادر بعد على الاستسلام.

- ومثلما هو حال كل البشر، بدأت رحلتي على هذه الأرض دون سعي أو طلب وبلا حماس وهدف. سرت دون وجهة اعرفها لأقصدها، وها أنا أتجاوز ربع معدل عمري التقريبي وفقا للاحصائيات ، و نصفه وفقا حدسي ، وما زلت أتساءل دون جواب: إلى أين أمضي؟
- رغم الاستياء الكبير الذي يغمر نفسي إلا إنني أحمل كذلك تعاطفا كبيرا تجاه "سكان التاريخ" كما ارتأيت ان اطلق عليهم ، فنحن لم نختلف عنهم كثيرا. إنما الظروف جائت هي المختلفة. لا أتحدث عن عشرات ولا حتى مئات السنين، بل أكثر..فلو رجعنا مثلا إلى الإنسان الذي طبع يداه المغطتان بالدماء على جدران “كهف الأيدي” في ذلك الركن الجنوبي من الأرض بالأرجنتين قبل حوالي تسعة آلاف عام، يخطر بذهننا عندما تقع عيننا على الصورة أنه يقول لنا: ها أنا أيضا مررت من هنا، ها أنا جئت ورحلت بلا أي شيء، وأنتم الذين تتفحصون صورة يداي وأصابعي، وتدرسون تاريخ إقامتي ورحلتي على هذه الأرض، سترحلون أيضا إلى مجهول بلا شيء. لا جدوى لأي شيء هنا.
- الشيء الوحيد الذي يهشم هذا العبث هو ذلك الوعي اللعين الذي يجعلنا ندرك كل هذه الأمور، وتلك الذاكرة البائسة التي تخزن كل تجليات هذه المعاناة . لنختلق معاني وتصورات وقناعات وأيدولوجيات ونصدقها بسذاجة لا مثيل لها ، وذاكرتنا تستحضرها دوما لتقودنا وتوجه رحلتنا، لكنها في الواقع تبعدنا بصورة غريبة عن حقيقة ذواتنا. وكأن وعينا وصل إلى مرحلة من التطور جعلته يدفعنا إلى إنكار وعينا والهروب منه!
- نعم، إن الأمر أشبه في مجمله برحلة مجنونة بدأها الوعي. لكن أراجع نفسي وأقول لعل هذه الرحلة كانت الطريق الوحيد لمواصلة الحياة! فبالتأكيد لم يكن الأمر هينا. طفرات كبيرة وعديدة طرأت علينا وميزتنا بشكل مخيف عن بقية جيراننا من الكائنات. حتى صرنا غرباء... أنا ابن القرن الواحد والعشرين بعد الميلاد عندما أفكر في الأمر أصاب بالصدمة.. لم نتحمل الوعي! وسعينا لإيجاد وسيلة لإخراجنا من هذا الخطأ الطبيعي.
وعلى هذا النحو مرت آلاف السنين من تاريخ وجودنا على هذه الأرض. وكل جيل ينتهي بتسليم مشعل معاناة حقيقتنا إلى الجيل الذي يليه. وها أنا الذي أتيت إلى هذه الدنيا في ركن صغير من شمال قارة إفريقيا مهد الإنسان، أقف الآن وأنا أدون هذه الكلمات سيئة التنظيم وأنظر في نفس الوقت إلى التاريخ، وأعتصر ذاكرتي لتخيُل معاناة أجدادي العاقلين. أتخيل نفسي واقفا منتصف صراط مستقيم يمتد إلى منتهى البصر، يسبقني عليه عدد غير قابل للإحصاء من البشر، وسيتبعني عليه أيضا عدد آخر غير قابل للإحصاء من بشر آخرين. أقف بين هؤلاء وأولئك. أنظر لكلا الجانبين، وأول ما أقوله لنفسي: كيف يكون هذا الوجود نعمة؟
- نعم، جزء داخلي ما زال يبحث عن أثر بريق يكشف عني ظلمات اللاجدوى. أحاول وضع حد لهذه المشاعر السلبية التي استصغرها باهانة في أوقات كثيرة عبر وصفها بـ”الصبيانية”، و افتش عن إلهام يعينني على مواصلة المسير. أحيانا تجذبني صور لشخصيات ناجحة في أعمالها، لكن سرعان ما أنصرف عنها لشيء في نفسي، فبالرغم من انني اريد هذا النجاح و لعلي سأحققه لكن حقيقة ليس هذا ما أنا بحاجة له.. فما الذي سيجلبه لي؟ فظمأي لا يتعلق بحاجة مادية على الإطلاق. ليته كذلك، لهان الأمر.

- ثمة حدث شاهدته ذات صباح ليس ببعيد جعل فكرة تصادفني لوهلة..فكرة كون هذا المشهد هو الجواب السهل عن أحد اصعب الاسئلة..فكرة أن هذا هو ماسيكون قادرا على اخماد كل هذا الاستياء.
فبعدما نهضت من سريري وأزحت ستار نافذتي لأستنشق هواء اليوم الجديد في مدينة أنا غريب عليها ، وقعت عيناي على شرفة جارين سبعينيين يعيشان لوحدهما، الشرفة تملؤها ورود ملونة ويعلوها حبل معلق عليه كمامتين ومنشفة صفراء . يجلس الزوج الأصلع على يمين طاولة طعام صغيرة مرتديا نظارته ومنهمكا في قراءة كتاب غلافه أخضر اللون، لم يهمني حينها و لاول مرة ان كان حول ميكانيكا الكم أم نواقض الوضوء ، وفي تلك الأثناء جاءت الزوجة ذات شعر أبيض قصير تحمل القهوة وفطائر منزلية. وضع الرجل فاصلا بين صفحات الكتاب و أفرغ له جانبا من الطاولة وبدأ حديثا بدا شيقا مع زوجته مع أول رشفة من قهوته.
كثيرا ما أشعر باجتماع المعنى وزيف المعنى في مكان وآن واحد. وفي هذا المشهد العفوي راودني نفس الشعور. لبرهة قلت لنفسي وماذا لو كانت رحلتنا في هذا الوجود حقا نعمة، لاختُزلت في هذا المشهد البسيط، لكن سرعان ما هاجمني زيف المعنى مسطرا أمامي خلفية المشهد، وسرد لي كيف جاء هذان العجوزان إلى هذه الأرض وكيف التقيا في أول الأمر؟ وما هي دوافع اللقاء ثم الزواج ومشاركة الحياة؟ ولماذا يأكلان ويشربان؟ ولماذا ثمة وقت يمضي و كيف سيموت أحدهما قبل الاخر؟….. لم تتوقف عن غزوي الأسئلة عن ماهية هذه “البرمجة” التي تبدأنا وتنهينا…. وبين الحدين أشياء كثيرة.
- احتجت قليلا من الهدوء ولم أتمكن من خداع عقلي وإسكاته سوى باستحضار مقولة لالبرت كامو: “العيش هو إبقاء اللاجدوى على قيد الحياة، وإبقاء اللاجدوى على قيد الحياة هو قبل أي شيء آخر: التأمل فيها”.

-M.