Advertisement

Main Ad

«هايدجر في المشفى».. في مقاربة الواقع من خلال وجهة نظر المصحّة

 عنها، بصمتنا عن مساءلها والآثار الحيّة التي تشتغل عليها، ولعلّ أحد هذه الأعمال الجزائرية هي رواية «هايدجر في المشفى» للروائي محمّد بن جبار، دار بوهيما للنشر 2018، الذي كتب نصّا روائيا فلسفيا فريدا ابتغى به مقاربة لواقعنا من خلال أسئلة فلسفية لا تزال موضوعا أساسيا للدراسة والتحليل


يروي بن جبّار على لسان إحدى الشخوص الناصر حياة هامشية في حيّ المرجة،فنجد  عوّاد الذي يعيش حياة رتيبة بين العمل والمنزل تتخلّلها أزمة نفسية إذ به يحرس منزله بشكل دائم من رجل يترصّده بشكل دوري، يقول فيه :«مشكلتي تنحصر في ذلك الشخص الذي يراقبني ليلا ونهارا، يقف أمام بيتي ويتحسّس حركتي وأنفاسي»، سيبدأ جوٌّ من الفزع والقلق يصيب عوّاد جراء هذا الرجل الغريب، وجراء قلّة حيلته أمام هذا التهديد الذي يجتاح زوجته وأولاده الذين حسب تصريحه «لم يعودوا يشعرون بالأمن والأمان معه، ومن المفارقات المحزنة وهو بينهم يزدادون توجسا وهلعا»، يتيح لنا الراوي مكنونات يعيشها عوّاد مع عائلته فعلما أن صورة الأب هي التي تكون درعا للعائلة نقرأ شيئا مغايرا لهذا التقليد المجتمعاتي، ففي الرواية تحتفظ الزوجة بسكينة تحت وسادتها دائما مخافة أن يدخل سارق ما أو أحد رجال العصابات، وحين يساءلها عوّاد أن تبعد السكين من الغرفة تجيبه :«أدافع بها عن نفسي وعن بناتي! فأما أنت فلا تقوى حتى على حملها! هذا ليس من شأنك أنت لا تعرف سوى مسك الكتب بيديك الطريتين الغضّتين الشبيهتين بأيادي الفتيات»، تتراكم إخفاقات عوّاد داخل عائلته وتهترئ روابطها، ويثير هكذا قضية الأخلاق في المجتمع وكيفية بناء تصوّرات متباينة حولها، فهو الرجل المتعلّم والخلوق صار عرضة لكل المشاكل لأنّه يتّجه للسلم دائما، «الأبهة التي كانت تحيط بشخصي كموظف محترم ورجل متعلّم ومؤدّب ومواطن صالح لم تعد شيئا مهما بالنسبة إلى زوجتي وأهلي وجيراني


يرتكز الروائي في مسار موازٍ لفضح مآلات ونتائج ما يسمى ب«المصالحة الوطنية»، هذه الأخيرة التي «وضعت التيجان على رؤوس أمراء الإرهاب وأغدقت عليهم الأموال والجاه والمناصب وتبرئة الذمة»، من هذا المسار تتحدّد إحدى معالم هذه الرواية، فالراوي تحديدا يثير مسألة مهمة لطالما تمّ السكوت عنها وهي تبرئة الإرهابيين الذين عاثوا فسادا وقتلا في أواسط المجتمع في خضم ما يسمى بالعشرية السوداء بالجزائر (1990-2000)، لأنّها قرار سياسوي لم يتح للمجتمع الجزائري أن يتصالح مع ما حدث له، بل أخرج قتلةً وأصبغهم بسلطة غير مباشرة على المجتمع حتى أنّهم صاروا يتمتّعون بميزات خاصة في عوض أن تتم معالجتهم من مرض الإرهاب أو إدخالهم السجون لما اقترفوه، ف«العاطلون وخريجوا السجون يتربصون بالبيوت الآمنة. الإرهابيون التائبون وحدهم، من يحوزون على قوة الاحترام وسلطة عدم التعرض لهم»، هكذا بُنِيت صورة جديدة جميلة عمّن كان يقتل ويذبح، وتحوّلوا لسادة في المجتمع، ولعلّ قلق وفزع عوّاد المستدام من الرجل الغريب خارجا يثير في أنفسنا التساؤل حول مرجعية وجوهر ما يسمى بالمصالحة الوطنية 


وحينما يقدم عوّاد على فعلته ستتيح لنا الأحداث فكرةً عن مأزق العدالة كسلطة قانونية لا تستطيع تحقيق هذا المفهوم بحدّ ذاته، إذ يقول :«دخلت في كآبة وحزن شديد...كنت أسير كامرأة سيئة السمعة، كعاهرة، برأس مطأطئ لا أقوى على رفعه أكثر من رؤية بضعة أمتار أمامي


في تحوّل أحداث الرواية نتابع دخول الناصر وعوّاد لمصحّة أسماها الراوي «مملكة الرّب»، وقد كان لقاؤهما في هذا المكان لأول مرّة وكل ما حدث يندرج في الفلاش باك بينهما والمتمثل في مخطوط عواد الذي سيقرأه علينا الناصر، في هذا الجزء يلغّم الروائي روايته بأسئلة فلسفية حادّة، إذ أنّ المصحة تحتوي على ثلاث فئات مختلفة إحداها تتبع نهج الفيلسوف مارتن هايدجر وتبشّر بتعاليمه والأخرى بالفيلسوف كارل بوبر أما الثالثة فهي تندرج في الممتنعين، ولعلّ هذه المصحّة تكون استعمالا مقارباتيا لواقع مجتمع متناقض في علاقاته وأفكاره، ويصفّها الراوي بالسجن الذي يحتوي على سجناء أفكار وسجناء أفعال وكلّ من ناصر وعواد يندرجان في الفرقة الأولى لأنهما  كاتبان والكتابة في عهد هذه السلطة خطيئة يتم عقابها بشكل صارم كي لا تتكاثر في المجتمع


من خلال المصحّة والفرقتين سينقد الروائي السلطة وآلياتها التي تفرض النظام العام الذي يعتبر أساسا «أكذوبة ما فتئت تستعمل في كل مناسبة، كشكوكة في حلق الخلق، تعرقل كل مبادرة خيّرة وكل سؤال يفتح العقول ويبدّد الأوهام

تتيح لنا الرواية من خلال فكرة المصحّة كيف أنّنا نعيش داخلها في شكل مغاير ولكن بنفس النسق لأنّ الممارسات التي تتمّ فيها تحيلنا للقول أنّها صورة تعكس واقعنا، من سلطة تستبد بالقانون، لمواطنين ممنوعين من التفكير وإبداء الرأي، لكيفية تأليب أطراف على آخرين

يصوغ محمد بن جبّار في روايته هذه صورة عميقة لما يمكن أن نراه اجتماعيا ونفكّر به فلسفيا، فيصرّح الناصر قابعا بالمصحّة :«العاقل من لا يتورط في السؤال، نراها عند دخولنا الردهة وعند إعادة تجميعنا كالقطيع، تذكّرنا بالمصير البشري واللامعنى

تعبّر هذه الرواية عن إشكاليات فلسفية متفاوتة، وقد أتقن بن جبار صياغة العالم الذي تدور فيه أحداث الرواية من خيار الأسئلة الجوهرية للنّص السردي إلى المحيط الاجتماعي وما يشوبه من خلل إلى المصحة التي ستنبثق منها كل التساؤلات