أنطون تشيخوف... قامة المسرح الروسي... يقال انه كان يخلق شخصياته و يتركها تلعب مسرحيتها التي تنتمي الى المدرسة الواقعية الروسية... و بعدها يبدأ بكتابة النص المسرحي.
و بنفس المبدأ يكتب تشيخوف رواياته... حيث انه لا سلطة له عليها في تصرفاتها و انما في مصيرها... يخلق أحداثا و ينتظر ماذا ستكون ردة فعل شخصياته ثم يكتب عنها.
زار تشيخوف سجن ساخلين المشهور بوحشيته عام 1890 ابان حكم القيصر نيكولاس الثاني مزامنة مع الوقت الذي توحشت الرأسمالية فيها لكن ثورتها الصناعية سمحت بظهور طبقة وسطى قوية كونت احزابا معارضة راديكالية فأنتجت حركة إصلاحية عبر البلاد سياسيا و اجتماعيا و اقتصاديا.
في روايته القصيرة "العنبر رقم 6"... يحاول تشيخوف ان يسلط الضوء على التركيبة الاجتماعية و السياسية في بلاده... فيخلق شخصيات بتركيبات نفسية حيث تمثل كل واحدة منها شريحة من المجتمع الروسي... الحكومة البوليسة التي تراقب طوال الوقت و تضرب بعصا من حديد و الرأسمالي الجشع و السياسي الناشط المعارض بحرارة الذي يحاول التغيير بكل ما يمكن و المفكر المثقف "الرواقي" الذي فقد الأمل في مجتمعه و يحاول تقبله على ما هو.
تجري الأحداث داخل مستشفى عام في قرية صغيرة تتجاهلها السلطات ولا تأبه لها. فيه قسم خاص بمن يعاني من مشاكل نفسية و تحول إلى ما يطلق عليه ب"مجنون" آنذاك.
نراقب طبيبا شابا متخرجا جديدا من الجامعة، اختار الطب ليرضي والده بعدما كان يريد ان يصبح قسا... بطموح و همة عالية و بشغف نحو انقاذ حياة سكان القرية و مساعدتهم... تمر السنوات و يكتشف الطبيب ان لا أحد يأبه للمستشفى و حالته المزرية المقززة... فلا الحكومة ترد على رسائله و طلباته المتكررة... ولا الإدارة المحلية تعطي له أي اهتمام... ولا السكان انفسهم يأبهون به، فهم لا يقمون بأي ضغط لتغيير حالته و يزورونه فقط متى مرضوا ليشتكوا من حالته و فقط... و نجد أن الطبيب وضع في زاوية لا مخرج منها سوى تبني فلسفة رواقية و واقعية. فكل تلك الطاقة و الحافز القوي تحول إلى غضب و حنق ليصطدم بعدها بجدار الواقع الفضيع حوله.
فيجد نفسه في عزلة يقرأ الكثير من الكتب و يرى أن أعظم ملذات الحياة هي امتلاك صديق يمكن ان يحدثه في مواضيع ثقافية مهمة و عميقة.
إن الحالة المزرية للمستفى الذي يقضي فيه جل وقته و عدم قدرته على تغييرها إلى الأحسن، اصحبت تمثل له الحياة ككل. "الكل سيموت" و "الألم شيء حتمي في الحياة" ثم "إن مسؤولية الإنسان و حريته الوحيدة داخل عالم الفرضيات و الحظوظ هي تقبل ما هو عليه"... إن كل ما يمر به و "كينونته" ذاتها مجرد صدفة و فرضية او كما تسمى حظا... و حقيقة انه ولد و أصبح طبيبا لا هدف منها بل هي فقط حدث فرضي عادي جدا... و مادام الألم جزء حتميا من الحياة، فكل ما يمكننا فعله هو تقبله و محاولة إنقاصه قدر الإمكان و العيش حياة ذات معنى يشغل جل وقتها التفكير و التعلم عنها و الإبداع فيها و مناقشة مواضيع أفكارنا الأساسية.
يتحول الطبيب أندريه أفيمفيتش راجين ببطئ و دون أن يشعر إلى شخص مهمل لعمله مادام القيام بكل شيء لم يأتي بأي نتيجة... و يخلق لنفسه روتينا صحيا لدرجة ما يقضي جله في قراءة الكتب و الحوارات الثقافية في الجرائد... و يشارك أفكاره و معتقداته مع صديقة مدير مكتب البريد المحلي و الذي هو ذو تعليم متوسط و يظهر تقبلا لدرجة ما لأفكار الطبيب، إلا أن افيمفيتش راجين يعلم أن صاحبه متوسط التعليم ولاحظ عدم قدرته او رغبته في نقاش الأخلاق و المواضيع الحساسة.
في إحدى جولاته الصباحية داخل المستشفى الصغير القذر الذي يسيره كرئيس الأطباء يلاحظ قسم "المجانين" (و هو القسم الذي حاول إصلاحه بكل الطرق إلا انه لم يستطع) فيقرر الدخول و يبدأ بمعاينة المرضى لأول مرة فيجد ما ذكرت سابقا... كل مجنون يمثل او يرمز الى شريحة من المجتمع الروسي آنذاك... فيلفت نظره أحد المجانين الذي يعاني "عقدة الإضطهاد" (مرض نفسي يشبه لدرجة ما مايعرف حديثا بالتشيزوفراينيا. يصاب المريض به بهوس و وسواس أنه مراقب و ان هناك من يحيك ضده خطة ما للقضاء عليه، معظم الأوقات تكون السلطات هي مصدر هذه البرانويا) و هو جامعي ذو معرفة و اطلاع جيد بكل ما يدور في العالم و أيضا له القدرة على الكاملة على الخوض في نقاشات عميقة و تقديم أجوبة و آراء منطقية.
تتكون صداقة بين الطبيب و المريض موضوعها هو النقاشات التي تكون حادة بعض الوقت، تدور جلها حول "العدالة" و "الألم و المعاناة". يتحدى فيها غروموف المريض راجين الطبيب و فلسفته الرواقية و نظرته المادية العدمية. فغروموف يرى ان فكرة "تقبل الأمور على ماهي" مجرد حنق و قلق دفين من عدم القدرة على فعل أي شيء و هي مجرد "كسل" في وجه "لابد أن أغير الأمور". و أن "حاول أن تفعل ما يمكنك فإن لم يحدث ما أردت، فلابأس" هي إعلان صريح عن فشل الطبيب الذي يأخذ النقاش إلى حد أبعد و يقول انه "لا فائدة" من محاربة "اللاعدالة" الحياتية حيث انها مجرد صدف و حظوظ... و أنه طبيب و الآخر مريض من باب الصدفة البحتة و انه "واقعيا" يستحيل القضاء على كل الألم في العالم.
دون الدخول في كل آراء كل من راجين و غروموف.
يحدث ان يستمع احد الأطباء المساعدين إلى حوارات الطبيب مع المجنون و لأنه لا وجود لأي شعبية او استعمال لعلم النفس آنذاك... يستغرب الكل كيف يمكن ل"عاقل" ان يخاطب "مجنونا" إذا لم يكن هو مجنونا أيضا... و هي أحد النقاط المهمة التي ساهم هذا العمل الأدبي في تسليط الأضواء عليه و جعله موضوع النقاش (ما معنى المجنون و مامعنى العاقل و هل يمكن تحديد القدرات العقلية بطريقة علمية) مع غيره من الأعمال ليولد ما يسمى بعلم النفس و المدرسة التحليلية خاصة.
تتسلسل الأحداث فيذوق راجين من كأس الخديعة و التلاعب به و الإهانة و الإحتقار الى "الحظ" المرعب حيث ينتهي به المطاف إلى نفس العنبر مع المجانين الآخرين.
يلتهب الغضب راجين و يحاول كل جهده اقناع من حوله بانه غير مجنون. إلا أنه يجد نفسه بين يدي الحارس المقيت الذي كان يعاقبه قديما كثيرا بسبب عنفه ضد المجانين... و تدفع حالته و الواقع الذي هو فيه الطبيب الى الأنقلاب تماما ضد كل قناعاته و آرائه الفلسفية التي انكسرت أمام الواقع المليء بالألم الذي لا يمكن تقبله حتى و ان غابت القدرة تماما على تغييره... و يرى انه كان بالإمكان القيام بالكثير الذي على الأقل يمكن ان يغير حالة العنبر و بهذا يتحكم بحظه المستقبلي... فيبدأ بالإيمان بالعدالة بطريقة منطقية دون ان يناقض أيا من قناعاته السابقة، الا ان الفرق هنا يقبع في "اتخاذ قرارات فعلية" بدل اتخاذ قرارات تبدو واقعية و صحية الى انها غير فعالة، انتهت به الى العزلة ثم الجمود الكلي و الكسل... لتنتهي القصة بعدها تراجديا.
في هذه الرواية القصيرة، التي يمكن قرائتها في جلسة واحدة، نرى أهمية الأدب كإنتاج ثقافي و كيف يمكن له ان يؤثر على المجتمع و المجتمع العلمي حتى.
نشر تشيخوف هذه الرواية بعد اغتيال قيصر روسيا الكسندر الثاني... و اغتياله كان إعلانا لتوقف فترة الإصلاحات السياسية و الإجتماعية حيث كان للمثقفين دور كبير فيها... ففقد جل الفاعلين الإجتماعيين كل امل في التغيير و عم البؤس و الإكتئاب. كان تشيخوف يعاني اكتئابا حادا و كانت مجموعة القصص و الروايات القصيرة هذه و التي كانت "العنبر رقم 6" إحداها مخرجه من كآبته... ليتريث لمدة 6 اشهر قبل نشرها لأنه أحس بتأثير كبير لدوستويفسكي فيها (لأنه كان يقرأ له بشراهة في هذه المدة) حسبه، ليجمع بعدها معظم النقاد انها رواية تشيخوفية بامتياز.
نرى في هذا العمل كيف يتخلص تشيخوف من فلفسته الرواقية الشخصية التي تبناها قبل الإغتيال... ليتبنى فلسفة اكثر "واقعية" و ذات فعالية أعلى... تكون المثل العليا جزء تطبيقيا منها، و تتمركز على عدم فقدان الأمل بدل "تقبل" ما لا يمكن تغييره اذا لم تسر الأمور كما خطط لها... بل فلسفة تكون فيها الغايات واضحة و أخلاقية ولا يتخللها أي "تقبل" أو مساومة لغيرها.
يعتبر النمط التصرفي و الفكري في هذه الرواية ديناميكيا و واقعيا... و يقدم نموذجا عن ما يمكن أن تنتجه فلسفة صحية إذا ما لم تقوم بالعيش في الواقع و التعامل مع مختلف الوضعيات (فتصحح و تقوم و تصبح أكثر فعالية و إنتاجية)... أما إذا كانت الفلسفة في حد ذاتها و عمقها نظرية و تدعوا لذاتها، فيرى تشيخوف حسب روايته ان مآلها الكسل و الخمول و العزلة داخل الذات بدل بناء الذات على واقعها المعاش (خاصة السياسي و الإجتماعي).
-M.