إذا درسنا الإنتاج الأدبي القديم في كل الثقافات و الحضارات القديمة من كل أطراف العالم و حتى في أجزاء حيث الصدام او الإتصال الثقافي معزول تماما كحضارات أمريكا الجنوبية و أفريقيا الوسطى لوجدنا هوسا بالعيش للأبد و فكرة الخلود.
و مع أن التكنولوجيات و الظروف في تلك الحقبات الزمنية و تحت الأوضاع البيئية القاسية و قدرة السفر المحدودة جدا نجد الرغبة في الحياة كانت قوية لدرجة محاولة خلق ترياق العيش الأبدي الصيني او حجر الفلاسفة الأوروآسيوي.
و لأن الرغبة في العيش من التصورات المرتبطة ارتباطا وثيقا بتصور السعادة.
فكيف يمكن أن يكون العيش في زماكان أقسى و يحد أكثر عيشا سعيدا؟
كيف يمكن لزمن أصبح فيه كل شيء من كل جهة في العالم حتى الإتصال الإنساني المباشر عبر آلاف الكيلومترات ممكنا، أن يكون نفس الزمن الذي يعاني جائحة الإكتئاب الإكلينيكي.
إذا لم تتسائل هذا التساؤل الطبيعي فأنت مغسول الدماغ تماما من طرف الشركات التجارية و النظام الإقتصادي و الإجتماعي الحديث و انك روبوت آخر... نسخة أخرى من الإنسان المادي الحديث.
نجد أنه لو أننا نتبع علم النفس الحديث التجريبي أو التحليلي الإحصائي لوجدناه قاصرا و لا يمكن أن يعطينا نظرة واضحة عن السيكولوجية الإنسانية و هو عاجز كليا عن تقديم دراسة تاريخية تحليلية بمنهجيته دون الإستعانة بالمدرسة التحليلية أو على الأقل بدراساته الكلاسيكية القديمة... و لهذا لازال يمكن ان تجد إسم فرويد و كارل يونغ ليومنا هذا في الدراسات الاكاديمية.
أما عن الدراسات النفسية التطورية فهي تعتمد على الدراسات الأنثروبولوجية التي اذا اتبعنا منهجيتها لوجدنا أنها تشابه و تكاد تطابق منهجية المدرسة التحليلية.
أيضا نرى لماذا كانت الحاجة للمدرسة التحليلية حتى بوجود المدرسة السلوكية behaviorisme التي كانت محدودة بنفس العوائق داخل منهجيتها.
فهل السعادة في تقبل الألم و عزل الذات ببناء عالم داخلي مسالم و مطمئن يتقبل العالم الخارجي بما فيه؟
لنجيب على هذا السؤال ارتأيت أخذ منهج المدرسة التحليلية مادامت جل المنشورات السابقة تأخذ بأفكارها لكن دون تطبيقاتها.
و لهذا سنحاول دراسة حالة étude de cas . و بدل دراسة حالة افتراضية أقصي فيها أي متغير قد يؤثر عليها. او حالة من العالم الواقعي يمكن فصلها على انها وضعية فردية لا يمكن التعميم عليها او تقديم احصائيات تركز على عدد كبير من الأشخاص لكن مع تجاهل كل الظروف و المتغيرات الأخرى التي يمكن ان تؤثر على مجموعات صغيرة داخلها او التركيز على جماعة انسانية داخل ثقافة محددة.
و لأنني لم أجد أي دراسة فردية او جماعية طويلة المدى عن تأثير هكذا عقلية.
و هذه هي نفسها كانت أسباب المدرسة التحليلية بمقدمتهم فرويد و يونغ... فإن أخذت كتاب مقدمة في علم النفس التحليلي لفروية ستجد الكثير من التحليلات الأدبية و التاريخية لبعض الأفعال و الأنماط التصرفية. و لو أخذنا كتابات يونغ سنجدها ترتكز على تحليلات نصوص ادبية و دينية و رموز و دراسات ميدانية اجتماعية لبعض الثقافات و المجتمعات الصغيرة.
و لو نظرنا في تاريخ كل العلوم... حتى الدقيقة منها كالفيزياء و الكيمياء و غيرها... سنجد ان الجانب النظري منها يسبق التجريبي... و لو نظرنا النسق العام حتى للعلوم اجمع لرأينا تطور الرياضيات الذي كان يسبقها نظريا.
و بتفقد ما سبق فرويد و يونغ في علم النفس لرأينا الشيء القليل جدا... مما يجعل ما قام به فرويد و يونغ هو الخطوة النظرية الأولى... و لغياب المعلومات و البحوث الكافية قدمت النصوص التاريخي و الأدبية و الدينية شخصيات دينامكية. و بهذا كان تحليل الأنماط التصرفية من هكذا تراث اول خطوة أخذها كلا العالمان و الباحثان نحو جعل العلم أكثر دقة و تجريدا.
أما قول انه لا حاجة بالدراسات التحليلية في عصرنا هذا... فهو يساوي قول فلنتخلص من الفلسفة او الرياضيات النظرية و لنقم بتجارب عشوائية و دراسات تحليلية عليها لنجد النظرية بطريقة سحرية.
المقال القادم سيكون محاولة شخصية في تطبيق اساسيات هذه المدرسة و تحليل عمل ادبي قصير و هو رواية أنطون تشيخوف القصيرة "العنبر رقم 6" و ماهو معروف عن تشيخوف هو انه كاتب مسرحي اكثر منه روائي... و في أعماله الأدبية القليلة يستعمل منهجيات المسرح في خلق شخصيات تتصرف تلقائيا حسب بنائها "الأدبي" مما يقدم شخصيات اقرب إلى الحية.