ما هي السعادة؟ و كيف ندركها؟
اذا حاولنا تقديم تعريف للسعادة سنجد أن مربط الفرس هناك... فالسعادة كتصور او كمصطلح لا يملك أي معنى مجرد له يمكن ان يحلل و يبنى مقياس يقيسه فيصبح العيش براغماتي سهل.
فتصور السعادة هو تصور عام و ضخم يحمل داخله تراكمات مجتمعية و ثقافية و نفسية و ذاتية.
إن حالة "السعادة" التي يطمح إليها جزء كبير من الأشخاص حالة فردية و ذاتية و تحمل تكامل عناصر عديدة مع بعضها البعض و ثباتها على ماهي لمدة معينة و هو شيء يستحيل حرفيا.
و لأوضح هذا دعني أخبرك ماذا سيسألك أي مختص في أي عيادة نفسية:
- حالتك العاطفية.
- علاقاتك مع من حولك.
- حالتك المادية.
- حياتك المهنية/الدراسية .
- ماضيك و حاضرك و هل هناك أي أحداث ما سببت خللا في طريقة تفكيرك و تحليلك و تقبلك للواقع و مجاراته.
- تصورك للعالم و الواقع و نظرتك له و درجة تقبلك له او كيفية احتكاك به (روحية، دينية، مادية، تشاؤمية، واقعية... الخ).
لكن هذا التصور ينافي آلاف السرديات و التصورات المختلفة عن السعادة... فهناك من سعادته تكمن في جانب إبداعي "فني" ما، يناقض كل ماقبله... فنان منطو اجتماعي يعيش وحيدا تماما و يعاني ماديا الا انه يصيب من السعادة ما يصيب باكماله لوحة او رواية او قطعة موسيقية... عالم ذرة في مفاعل نووي يعلم علما اليقين انه يضحي بحياته و قد يرمي نفسه الى الهلاك بالتسبب لها بامراض خبيثة ستفتك بجسمه على المدى الطويل الا انه يختار العيش في تلك الظروف لشغفه للوصول الى تركيبة ما... جندي يرمي بنفسه من اجل بلاده او عشيق يضحي بحياته من اجل آخر... او... او... او...
و حتى و ان افترضنا انك قررت الانصياع التام و اتباع هذا التصور الكلينيكي "الصحي" للحياة، المبني تماما داخل ايديولوجية و سردية ثقافية و اجتماعية واحدة... ستجد ان الإبقاء على هذه الظروف تحت التحكم طوال الوقت قد يسبب امراضا نفسية تضرب كل العملية في الصفر.
أما تصور "السعادة" الفلسفي العام او داخل المدرسة النفسية التحليلية... و التي تحلل أفكارنا و اعتقاداتنا داخل النصوص المتوفرة و التراث الشفهي و الانتاجات الإبداعية و حتى تراثنا الديني المختلف... نجد أن السعادة هي "طموحاتنا" او "المعنى" الذي استنتجنا انه اسمى ما في هذه الحياة.
إنه أسمى ما نرغب به من عيشنا او ما نرى أننا كأشخاص "فرديا" موجودون للقيام به.
و إذا تعمقنا أكثر وجدنا أن "المعنى" او "السعادة" الحقيقة التي نسعى إليها و نستمتع بها و نعيشها و نجربها هي عندما كان ذاك الهدف بعيد الوصول إليه و انها تكمن حقا في القيام "بكل شيء" داخل منظومة أخلاقية ما (حتى تجعل من الطريق أصعب و اطول) و ليس الوصول إليه تماما.
و لهذا و حتى نعود لعلم النفس الإكليني الحديث نجد انه اذا ما وجد المختص انك ادركت تلك القائمة "الصحية" كلها و استطعت الحفاظ عليها لمدة طويلة الا انك لازلت تعاني من غياب "السعادة" سيحاول رسم "طموح" جديد لك و معنى آخر و هدف آخر ستتعب و انت تحاول الوصول اليه و سيجعلك ذلك الأمر سعيدا.
أو اجعل من السعادة شعور بالرضا و القبول الغير مشروط لحالتك و مشاعرك و حاول الإستمتاع بالعيش و الكد و ان تكون كما قال ليف تولستوي:
"إذا كنت تريد أن تكون سعيدا... كن"
ومع تطور علم النفس في المجتمعات الغربية، خاصة بعد أن أخذ منحنى فرويدي بامتياز لعقود، صارت الدراسات التحليلية التي تحاول بناء تصور علمي مجرد لماهية "السيكولوجية" الإنسانية او ماذا يجعل من الإنسان إنسانا؛ دراسات تبني تصورا عن سيكولوجية الإنسان القوقازي من الطبقة الوسطى و تعميمها على انها الحالة الخام أو الطبيعية لماهية "الإنسان".
فهذه المجموعة الإنسانية كانت الوحيدة التي تملك القدرة المادية الكافية لدفع تكاليف الأخصائيين و المكانة الإجتماعية التي تسمح لهم بأن يكونوا جزء من هذه الدراسات "العلمية" عن طريق الجامعات و المجتمعات العلمية.
و بهذا تم بناء تصور السعادة الكلينيكي الصحي على أسس مادية و اجتماعية لا تراعي الإختلافات الثقافية و الإجتماعية بل و حتى الفردية.
قرن هذا المشكل تصور السعادة بالنجاح... و غيابها بالفشل... من كان غير سعيد هو انسان فشل في إيجاد السعادة و هو إنسان "فاشل" بالطبيعة.
فانقلبت السعادة الى مجرد "عنوان" اجتماعي... وهم يكذب الأشخاص على بعضهم البعض... لا يعلمون ما هو... صار الأمر مجرد شخصية مبتسمة و مشرقة و ذات تصور إيجابي للحياة.
حتى كشفت الكثير من الدراسات الحديثة أن معظم الأشخاص يكذبون عند الإجابة على هذا السؤال أمام أفراد آخرين... بل و حتى يكذبون على ذواتهم و يصدقون كذبتهم فقط حتى يطمئنوا على قراراتهم و حياتهم المادية و وضعهم الإجتماعي عموما.