لم يعد الموت يخيفني أو يقلقني منذ سنوات طويلة، يذهب الموتى و يحتفظ الاحياء بذكراهم إلى أن يموتوا هم أيضاً. الامر يشبه نهاية فيلم، سواء كان ذلك الفيلم جميلاً أو بشعاً، فنهايات الأفلام والقصص والحيوات هي نفسها. بعد الجينيريك تأتي شاشة سوداء محايدة، لا يعني سوادها أيّ إشارة إلى الحزن، ولا إلى الفرح، بقدر ما يعني النهاية فقط، نهاية الحزن ونهاية الفرح، نهاية الانتظار ونهاية الوصول، نهاية كلّ شيء بالضبط، وهي (النهاية) أعمق حدث أنطولوجي يعرفه العالم منذ بدايته إلى نهايته هو أيضاً. إنها ببساطة شديدة العودة إلى الحالة صفر من الوجود ومن العدم أيضاً.
تعجبني تلك الموسيقى التصويرية للأفلام التي تعوّض الكلمات والمعاني بالأحاسيس المجرّدة فقط، أحاسيس متجاوزة لكلّ إدراك، أحاسيس من نوتات موسيقية تذكر بنظرية الأوتار الفائقة والأكوان المتوازية.
كلّ من يموت يتخلّص من عبء كبير ينتظره في الغد. صحيح ستفقد كثيراً من المتعة و طعم مثلجات الفانيلا، لكنك ستفقد مع ذلك أيضاً آلامك وتعاستك وقلقك اليومي وطغيان التفاهة التي تسيطر على العالم يوماً بعد يوم. ستعود في لحظة واحدة وسريعة، هي لحظة الموت، إلى الحالة الأولى للمصنع. كما في الأجهزة الإلكترونية. الحالة صفر، قبل اكتشاف الإنسان لأدوات الزراعة والصيد والحرب، ستعود مباشرة إلى ذلك الإحساس العميق الأوّلي والبكر بالطبيعة، برائحة التراب والمطر والأزهار ودغدغة خنفساء لقدمك العارية. بعد ذلك لا يهم أن تتحوّل ذراتك إلى زهرة أو إلى عداد كهربائي ، ستكون قد فقدت ذاكرة الشخص ووعيه لتكتسب من جديد كما قبل ولادتك ذاكرة العالم.
هذا ببساطة شديدة هو الموت. في حقيقة الأمر، إنه نهاية كابوس تتخلّله الأزهار والقبل ، بحيث مع الوقت، تصير الأزهار والقبل وكلّ ملذات الحياة أكثر إرعاباً حتى من الأشباح. ثم يأتي الموت ليخلصك من كل ذلك. يأتي الموت ليجعلك تقول في نفسك أو تقول الطبيعة ذلك عوضاً عنك: الحمد لله لقد كانت الحياة مجرّد حلم فقط، مجرد كابوس، وها إني أستيقظ منه الآن.
في صغري شكّل لي الموت هاجساً مرعباً، وربما بسبب اني لم افقد أشخاصا كثر أخافتني القبور والمقابر دائماً، أخافتني الأكفان والحنوط والشواهد، حتى سيارة نقل الموتى شكّلت لي رعباً مستمراً، كلما رأيتها تمر أشحت بوجهي بعيداً. لم أزر المقابر إلا في مرّات معدودة على الأصابع، وبسبب تلك الزيارات القصيرة طار النوم من عينيّ شهوراً وسنوات. لكن الان العكس تماما..
في البداية قاطعت المقابر بسبب خوفي من الموت، أما في النهاية فقاطعت المقابر بسبب عدم خوفي منه، لا شيء يجذبني اليوم لزيارتها.
حتى في حالة موت أحد ، أفضل أن أحتفظ بصورته في ذهني وهو حي، حيث لا صورة له وهو ميت، على أن أذهب به معهم إلى مقبرة. أفضل أن أسمع موسيقى جميلة وأنا أتذكره، أن أشرب كأساً في صحته، و ان كان مقربا أن أذرف دمعة عند النافذة وأنا أتأمل الغيوم، وأفكر في غيابه ذاك، وفي فراقه العابر الذي يشبه فراقاً عند محطة قطارات... بل إنها دون شك خيانة أن تذهب إلى مقبرة وأن تشارك في إهالة التراب على من تحب، لأنّ المقابر الحقيقية توجد في الذاكرة لا على أطراف المدن والقرى.
أعتبر الآن أنّ كلّ من مات: ارتاح، وأنّ المصيبة أحيانا تكمن في أن تكون حيّاً أكثر مما تكمن في أن تكون ميتاً، وأنّ الذين يتألمون بسبب الموت هم الأحياء أنفسهم وليس الموتى.
إنّ ما يرعب حقاً هو أن تتألم وأنت حي، أن ترى الخداع والألم والمعاناة، أن ترى الشراسة والإعاقة والعجز، أن ترى مريضاً يتألم، أن ترى جائعاً، أن تهان، أن تعود من حرب برجل واحدة فقط، تاركاً الرجل الأخرى تسبقك وحدها إلى الموت، إلى الراحة الأبدية، متخلية عنك، رافضة أن تجرجرها أكثر في طرقات ومسارب وأوحال، بحيث ستتألم وحدك دون أن تتألم هي التي تحرّرت منك، والصحيح في تلك الحال ليس هو أن نقول: لقد فقد رجله. بل أن نقول: لقد فقدته رجله، فقدته، ماتت وارتاحت من المشي ومن العثرات، بينما ما زال هو يمشي، برجل واحدة، يمشي ويمشي ولن يرتاح إلا حين: يتبع رجله...
اذهب إلى مقبرة فارغة عند الغروب، ادخل وتمشّ قليلاً ، مبتسماً غير عابس، تأمّل النباتات على جوانب القبور. القبور ليست سوى أصص كبيرة. التقط غصناً وشمّه بعمق، اقترب من زهرة قرب شاهدة وأخبرها أنها جميلة. قف وتأمل المقبرة كاملة، دفعة واحدة، تحت أشعة الشمس الحمراء... كما لو على إيقاع موسيقى آلة كمان أجش ووحيد...انظر: لقد عاش كل أولئك الناس كما تعيش أنت الآن، حلموا كما تحلم، بكوا كما تبكي وضحكوا كما تضحك... والآن يا صديقي إنهم نائمون في سلام بعد أن انتهى كلّ شيء، ولم تبق هناك سوى القصص وسوى الكلمات، نائمون وفقط... هذا شيء عظيم، درامي للغاية، لكنه في الحقيقة ليس حزيناً وليس باعثاً على الخوف.
لا تخف، لا ترتعب، ... أنت في الأصل زهرة في حقل يجب أن تعود ذات يوم إلى حقلك، حيث للشمس معنى، وللمطر معنى، وللهواء معنى، وللعدم أيضاً معنى أقدم وأعمق من معنى الوجود، وأوجد منه...