لاستغلال شهر رمضان للحديث عن مواضيع ذات صلة بالحضارة الإسلامية ، و الاطلاع على بعض أوجه فكرها و فلسفتها ، ارتأيت الحديث عن أحد رؤوس التصوف و احباره وهو الفيلسوف ، الشاعر و المتصوف الاندلسي محي الدين بن عربي الذي لقب بالشيخ الكبير و سلطان العارفين ، من اشهر كتبه الفتوحات المكية و فصوص الحكمة ، لم أقرأها بشكل كامل لكني اطلعت على الخطوط العريضة منها أين برزت فلسفته . وهدف المقالة هو إبراز فلسفة وحدة الوجود في أفكاره ، والتي سيكون لها تأثير على سبينوزا و الفلسفة الثيوصوفية على وجه عام !
وحدة الوجود أو وحدة الشهود هوما عقيدتان فلسفيتان لادينيتان رغم طابعهما الصوفي ، وحدة الشهود تقول لا أرى شيء الا الله ، أما وحدة الوجود تقول لا أرى شيء الا أرى الله فيه ، بمعنى وحدة الشهود في حال الفناء أما وحدة الوجود في حال البقاء وهوما متلازمان ...
ناتي على الوحدة و الاتحاد : رغم أن ابن عربي لم يقل بالحلول ، لكنه قال بالوحدة و الاتحاد ( ظهور الحق بصورة الخلق) ، فسر ذلك بأن الإنسان هو مجموعة من القوانين، و هاته القوانين هي جزء من الخالق بالتالي على الإنسان التقيد بتلك القوانين كي يعبد خالقه بصورة صحيحة ( بخلاف الخصوم الذين قالوا بأن وحدة الوجود هي نقص في حق الله ) ، ففي الصوفية لا وحدة بلا كثرة ، ولا كثرة بلا وحدة فتجلي الواحد هو مفهوم هندسي بحث ، العالم في الحقيقة ليس سوى تجلي الله لا سماء ولا ارض يخلوا منه ، وقد يحصل اتصال روح الإنسان مع الله و هذا الإتصال لا يصح الا بمجاهدة الروح و مجاهدة النفس !!
تهدف هاته النظرية ( وحدة الوجود ) إلى القول إن الإنسان و الله و الطبيعة هم شيء واحد ، فهي تقول بالحلول و الاتحاد ، فالحلول هو أن يحل الخالق بالمخلوق أو يحل باشياء العالم كليتها ، أما الاتحاد هو اتحاد العالم بمخلوقاته كلها مع الخالق ( مع أن ابن عربي نفى نظرية الحلول و الاتحاد في كتبه خوفا من المستبدين في الدين ، لكنه فشل باخفائها بشكل كلي عن مؤلفاته ...) .
هناك حديث قدسي يقول (( كنت كنزا مخفي فاردت أن اعرف ، فخلقت الخلق فبه عرفوني )) ، لكن سنجد مثلا أن هناك متصوفة يهود سيخالفون هذا الرأي يقولون ( لم يكن في القدم الا الله ، لكنه انسحب على نفسه ، بمعنى أنه حجب بعد أنواره فترك فراغ و هو الذي حلت فيه مخلوقاته ، وكما لم يكن تمت وجود مع الله قبل خلق العالم ، فكذلك ليست تمت من وجود مع الله بعد خلق العالم ؟؟!) .
يعرف المتصوفة أنفسهم بالمحبة التي تشمل جميع الناس و عدم كراهية اي فرد ، مهما كانت مللهم أو طوائفهم و نحلهم ، هذه الطوائف عابدون لله كما ينبغي أن يعبد لكن بطرق مختلفة ، مع ذلك كانت هناك كراهية من المتحجرين و المتشددين و من الكنيسة أيضا لدعاة وحدة الوجود ، لأن هؤلاء النصيين يركزون على فكرة الاله الشخصي ( عند المسيحيين و المسلمين و اليهود ) ، بخلاف وحدة الوجود التي تتجه نحو المطلق الغير شخصي !
أن وحدة الوجود تشابهت مع الفيزياء الحديثة حتى أن لديهم كل شيء في الكون مترابط مع بعضه البعض ( نظرية التجاذب الكوني عند نيوتن ) ، فلايوجد جزء يقال عنه أساسي فخصائص اي جزء في هذا الكون يقررها جزء آخر ، و هذا ابانته الفيزياء الحديثة باستحالة دراسة جسم بالمعزل عن الأجسام الاخرى ، مع العلم أن الفيزيائيين يتجهون للمعرفة العلمية و المتصوفة يتجهون للمعرفة المطلقة !!
ويقول ابن عربي في كتابه الكشف الإلهي أن المعرفة الغيبية تكمن في القلب و ليست في العقل ، فالعلم الالاهي شيء خارج العقل و يصعب على غير العارف التصديق به ( أن المؤمن إذا اختلى و زهد ، فإن الله قد يعطيه مفاتيح العلم الربانية ) ، فهذا العالم هو تجلي من تجليات الله ، و قد أطلق عليها اسم عالم البرزخ ، و شبهها بخيالات و ظلال الأشجار التي تنعكس على سطح بحيرة صافية و ما نراه نحن شبيه بتلك الخيالات ( هذا القول قريب نوعا ما من فكرة عالم المثل عند أفلاطون ) الإنسان هو مخلوق هلامي لاوجود حقيقي له ، فهكذا تذوب كل الكاىنات في الله ، لأنها مجرد تجليات له ، ولا يبقى من الوجود الحقيقي الا ذات الله .
يرى ابن عربي أن الخلق هو انتقال من حالة وجودية هي الأعيان الثابتة ( الخلق جزء لا يتجزأ من وجود الله تعالى) ، انتقل الى حالة وجودية أخرى سماها الوجود
العالم قديم أزلي خرج إلى الوجود بالتجلي ، تجلي الله عند ابن عربي هو تجلي دائما مستمر من وجهة نظره في حالة تجدد مستمر ، كما تتكلم كلام كثير و جمل مكون من كلمات و عبارات ، فإن الله يفني و يخلق كم لامنتهي من الكاىنات ، كما تفنى و تظهر كلمات جديدة من فمك !
وهنا نجد أن الإنسان ليس موجود حسب تعريفات الوجود وليس معدوم حسب تعريفات العدم فالموجود هو من يجد ذاته بذاته ولكن الإنسان يحتاج وجود الله لكي يوجد ولو لا وجود الله لما وجد الإنسان . فالإنسان والخلق عامة هو ضل الله إذ لو إختفى الله أو إنقطع نوره فلن يوجد الخلق.
كان علي أن امر على ابن عربي في طريقي لفهم وحدة الوجود عند سبينوزا بسبب وجود تشابه كبير بينهما ،هذا الاخير ربما سيكون موضوع المقال القادم .