كنت في المقهى حين وجدت نفسي جالسًا بجوار شيخ عجوز، لم يعد إلى البلاد منذ أكثر من ثلاثين سنة. كان يحمل في عينيه ثقل الزمان، وفي كلماته شعورًا عميقًا بالفقد. بدأ الحديث معي وكأننا صديقان قديمان، يتبادل معي ذكريات عن وطن لم يعد كما كان. قال لي بحزن خافت عن "موت شيء ما"، لكنه لم يستطع أن يصفه بدقة، وكأنما يحاول الإمساك بدخان ذكرى عابرة. خلال تلك العقود الطويلة، عاش الشيخ في غربته حاملًا في ذهنه صورة لمكان توقف عند لحظة معينة، لحظة مليئة بالحياة. كان يعود إلى هذه الصورة كلما احتاج جرعة أمل، متخيلًا أن الزمن توقف هناك، وأن كل شيء ينتظره كما تركه. لكنه عندما عاد، اكتشف أن ما كان قد مات، بل ربما ما هو أعمق: "شكل الحياة" ذاته قد تغيّر.
بعد الكثير من التحسر والأنين، ختم كلامه بجملة بدت كخلاصة معاناته، وكأنها تحمل ثقل الثلاثين عامًا: "حتى الهدرة ما بقاتش هي، مانيش نفهم فالناس، وخصوصًا هاذي الجيل الجديد".
هذا الحديث البسيط أثار في نفسي زوبعة من التأملات الفلسفية. لم يكن الأمر مجرد شجن عادي أو حنين ساذج، بل كان يحاكي فكرة أعمق، مرتبطة بطبيعة الزمن، اللغة، والوجود ذاته. تذكرت في تلك اللحظة شخصين وكتابين عظيمين: فتغنشتاين في "تحقيقات فلسفية" (Philosophical Investigations) وهايدغر في "الأنطولوجيا: هرمينوطيقا الواقعانية" (Ontology: Hermeneutics of Facticity).
رغم أن الفيلسوفين يسلكان طرقًا مختلفة في استكشافاتهما، إلا أن بينهما خيطًا خفيًا يربط مفاهيمهما. في الفقرة 19 من كتابه "تحقيقات فلسفية"، يقدم فتغنشتاين مفهومًا محوريًا وهو "شكل الحياة" (Lebensform). يقول:
"It is easy to imagine a language consisting only of orders and reports in battle. Or a language consisting only of questions and answers—yes or no. And innumerable others. To imagine a language means to imagine a form of life."
«من السهل تصور لغة لا تتكون إلا من أوامر وبلاغات معارك! أو لغة تتمثل فقط في أسئلة وأجوبة بنعم أو لا. ولغات أخرى عديدة من هذا القبيل. أن تتصور لغة يعني أن تتصور شكل حياة».
ما يقصده فتغنشتاين هنا ليس مجرد اللغة كوسيلة للتواصل، بل اللغة كوسيلة لفهم العالم. اللغة ليست مجرد كلمات، بل هي مرآة لشكل حياة بأكمله. في كل لعبة لغوية نعيشها، نحدد قواعد التواصل، والفهم، وحتى المشاعر. إنها وسيلتنا لإدراك العالم وفهم أنفسنا فيه. وعندما تتغير اللغة، يتغير العالم معها. الشيخ الذي كنت أحاوره كان شاهدًا على هذه الحقيقة المؤلمة. لقد تغيرت اللعبة اللغوية من حوله، والرموز التي كانت ذات يوم تحمل معاني عميقة له، أصبحت الآن غريبة وغير مفهومة. النكتة التي كانت تضحك الجميع لم تعد تثير سوى الصمت، والموسيقى التي كانت تحمل ألحانًا مألوفة أصبحت مجرد ضجيج بلا روح. تلك الحقبة التي عاشها، بكل ما تحمله من رموز ومعانٍ، ماتت.
هذا الانقطاع الذي عاشه الشيخ هو ما يقصده فتغنشتاين بموت "شكل الحياة". حين تموت اللغة، يموت العالم معها. ولم تعد العودة إلى ذلك الماضي ممكنة، ليس لأنه مضى زمنه فقط، بل لأن اللعبة اللغوية التي كانت تشكل ذلك العالم قد اختفت، ولم تعد قادرة على الحياة في الزمن الجديد.
لكن هذا الحديث، رغم بساطته، يتجاوز حدود اللغة ليصل إلى عمق الزمن نفسه. وهنا يأتي دور هايدغر في "هرمينوطيقا الواقعانية". هايدغر ينظر إلى الزمن ليس كشيء خارجي يمر، بل كحقيقة وجودية تعيشها الكينونة في كل لحظة. في كتابه يتناول مفهوم "التصور الزمني للحاضر" وكيف أن الحاضر لا يمكن أن يكون منفصلًا عن الماضي:
"The manner in which a time (the today which is in each case for a while at the particular time) sees and addresses the past... is a sign of how a present stands regarding itself, how it as a being-there is in its 'there'. This criterion is itself only a certain expression of a fundamental characteristic of facticity, its temporality."
«إن الطريقة التي يتصور بها عصرٌ ما الماضي... ويقاربه خطابياً، يستحضره في الذاكرة أو يتخلى عنه، هي مؤشر على الشكل الذي يرتبط فيه الحاضر بنفسه، ويجد نفسه في "هُناه"».
هايدغر يعتبر أن الوجود الإنساني مرتبط بعمق بتصوره للزمن. نحن لا نعيش في الحاضر فقط، بل نحمل الماضي معنا أينما ذهبنا. وحينما نحاول العودة إلى هذا الماضي، نكتشف أننا فقدنا شيئًا أساسيًا. ذلك الفقد ليس فقدًا لأشياء مادية أو لحظات معينة فقط، بل هو فقدان لإمكانية الوجود ذاته في ذلك العالم القديم. الشيخ الذي كنت أحاوره لم يكن يبحث عن أمكنة قديمة أو أشخاص رحلوا، بل كان يبحث عن عالمه الخاص، عن "شكل الحياة" الذي لم يعد موجودًا. كان يبحث عن الشعور بالألفة، بالأمان، بالمكان الذي يشعر فيه بأنه ينتمي.
هايدغر يصف هذا الشعور بالفقد بأنه "القلق الوجودي"، أو "الاغتراب". حينما يفقد الإنسان إحساسه بـ"البيت"، فإن هذا لا يعني فقدان المكان فقط، بل فقدان الوجود ذاته. "البيت" عند هايدغر ليس مجرد منزل أو مكان للإقامة، بل هو الشعور بالانتماء إلى عالم مألوف. وحينما يغيب هذا الشعور، يصبح الإنسان غريبًا، يعيش في قلق دائم، كمن فقد طريقه في عالم لم يعد يعرفه.
في هذه اللحظة، تدخل في ذهني مفاهيم "الملل" و"الأرق" عند دريدا وليفيناس، وكأنهما يجسدان هذا الاغتراب بلغة أخرى. الملل الذي يصيب الإنسان حين يفقد علاقته بالعالم، والأرق الذي يرافقه حين يشعر بأنه لم يعد جزءًا من لعبة الحياة. هذا الشعور العميق بالعزلة اللغوية والوجودية، عندما تفقد الكلمات معانيها، ويصبح التواصل مع الآخرين مستحيلًا، يشبه نهاية العالم بالنسبة للفرد. وكأنما الإنسان يعيش في غربة داخلية لا تنتهي، غربة في عالم فقد ألوانه، ولم يعد يحمل أي معنى.
الشيخ لم يكن يبحث فقط عن مكان أو زمان مفقودين، بل كان يبحث عن ذاته، عن عالمه الضائع الذي تلاشى في ثنايا الزمان. كان يبحث عن تلك اللحظة التي يشعر فيها بأنه ينتمي، بأن النكتة ما زالت تضحكه، وأن اللحن ما زال يحرك فيه مشاعر كانت تعني له الحياة. لكنه اكتشف أن كل شيء قد مات. ليس المكان وحده، بل الزمن نفسه. هذا هو موت "شكل الحياة" الذي يتحدث عنه فتغنشتاين، وهذا هو القلق الوجودي الذي يناقشه هايدغر. إنه فقدان الإنسان لعالمه، واكتشافه أنه وحيد في مواجهة عالم جديد لا يعرفه، ولا يفهمه.
-M.