Advertisement

Main Ad

نحو ال"Neo-Transcendence": رحلة استكشاف الحقيقة والواقع الجديد

عادةً، لا يسعى الناس الى اكتشاف الحقيقة بقدر ما يبحثون عن إشباع حاجاتهم الذاتية. هذه الكلمة، بمفهومها العميق والشامل، تظل غريبة عن القاموس الثقافي الشعبي، حيث يتجه الناس غالبًا إلى ما يرونه ضروريًا لوجودهم ورفاهيتهم. فيُعتبر التفتيش عن "الحقيقة" في أغلب الأحيان مسعى يخفي وراءه رغبات وحاجات شخصية؛ قد يكون ذلك البحث دافعًا لتحقيق السعادة، الاكتفاء، أو حتى إشباع الفضول.

لذا، يتوجب على المرء أن يعيد التفكير في ما يبحث عنه حقًا، فالتبصر في الغايات والأهداف يمكن أن يوجهنا نحو طريق أكثر وضوحًا ويساعدنا على تحديد ما نسعى إليه بالفعل. تلك الأسئلة تطرح نفسها كمحاولة لإعادة تقييم الدوافع الحقيقية وراء رحلتنا في الحياة، فإن الخطوة الأولى تبدأ بالتعرف على النفس وما تحتاج.

في هذا السبيل نسبر أغوار رحلة تتجاوز مرتبة البحث العادي، لتصير استكشافًا شخصيًا يمس جوهر وجودنا.
فالسعي خلف الحقيقة ليس مجرد نزوة، بل هو بداية مغامرة التنقيب في تلافيف الروح والعقل ، والغوص في أعماق الذات و ماوراءها، بحثًا عن إجابات لأسئلة قد لا تكون صياغتها بسيطة.
لطالما شكل هذا الأمر تحديًا يجبر الباحث على ملاحقة ظلال الحقائق في نور الغموض الذي يكتنف الوجود ، لطالما كان مزيجا من الألم والأمل، من اليأس وتوق الروح للإيمان، في سعي لا ينقضي نحو فهم يتجاوز الزمان والمكان،لكي يمنحنا في الاخير إدراكًا أعمق للسماء التي نحن جزء منها. 
لأجل هذا ، قد تبدو الثقافة العامة كمصباح يضيء مسالك معتمة، لكن ضوءه الخافت لا يكفي لاستجلاء الحقيقة الكامنة وراء الظواهر. فقد أصبح البحث عن الحقيقة، بكل تعقيداته ودروبه الشائكة، نيشًا ثقافيًا، يُعرض في الأفلام والأدب ووسائل التواصل الاجتماعي، كمغامرة تتطلب من الباحث أن يكون "the chosen one"، في رحلة "ego trip" تتخللها التحديات والإنجازات البطولية.
لكن، في جوهرها، هذه الرحلة هي انعكاس للصراع الداخلي، حيث  يجابه الفرد ذاته، ساعيًا لتجاوز سراب المعتقدات والتحديات التي تفرضها الحياة. الباحث، في سعيه هذا، مدعو لتجاوز اللمعان الزائف والجاذبية السطحية للثقافة الشعبية، متخطيًا الحواجز التي تفصل بين الوهم والواقع، بين الذات والكون. 

و ان في هذا السعي، يصير السؤال عن المعنى عملاً يوميًا، اذ إنها كما سبق و قلت، رحلة تتطلب منا التوقف عن البحث عن الإجابات الجاهزة، وبدلاً من ذلك، البدء في طرح الأسئلة الصحيحة والنظر إلى ما وراء الظاهر. فالمعرفة الحقة، كما طالما ارشدنا المتبصرون، ليست محطة توقف بل مسيرة دائمة الحركة، تتعدى حدود الأزمنة والأمكنة، وترتفع فوق المفاهيم المألوفة والصور النمطية.

هذا السعي، في حقيقته، هو محاولة لربط الفرد بجذوره الأولى، لإلقاء نظرة على الوجود بعيون تستوعب كل الإمكانات، مستعدين لاحتضان الغموض والمجهول بروح منفتحة. في هذه الرحلة، نبحث عن إجابات لأسئلة لم تُطرح بعد، في خطوة نحو اكتشاف الحقيقة الكبرى التي توحدنا جميعًا.

في العمق الهائل لرحلتنا هذه ، تبرز الحاجة إلى استكشاف الأديان والفلسفات كمرايا تعكس طبيعة البشرية وتنوعها الروحي. كل فرد منا، بحسب ظروفه وحاجاته العميقة، يجد نفسه مجذوبًا إلى فهم يخصه، بالدرجة التي لها صدى مع أعماق روحه وتحقق توازنه الداخلي. لكن هذا لا يقتضي بالضرورة شق طريقنا عبر مختلف المعتقدات والفلسفات العالمية بقدر ما يدعونا لتحديد ما نسعى إليه بصدق. فالتاجر الياباني لا يحتاج إلى غوص في أعماق أحاديث البخاري البخاري لفهم أسس الأمانة والصدق في التجارة، كما قد لا يستلزم الصوفي دراسة الكابالا أو أفكار فاديم زيلاند و إدغار كايسي أو سادغورو  للارتقاء بروحه. إن هذا يشير إلى أن الحكمة والفهم يمكن أن يتجلى في أبسط الأمور وأقربها إلى قلوبنا وأرواحنا.  

خصوصا في الوقت الذي نعيش فيه، حيث التحولات الجذرية تعيد رسم معالم الواقع الإنساني، يبدو أننا نشهد حركة مستمرة نحو التطرف في الأفكار والمعتقدات، تشبه إلى حد بعيد حركة الرقاص، الذي يتأرجح بين اليمين واليسار بحثًا عن نقطة السكون. تلك النقطة، حيث تتزامن الإرادة البشرية مع إرادة الخالق، تمثل لحظة الوعي الكامل والاتحاد الروحي، لحظة تذوب فيها الفردانية لتكشف عن جوهرنا الحقيقي.

في مسرح الوجود الأرضي هذا ، يدور الصراع الأزلي، بسيطًا في جوهره، معقدًا في تجلياته، صراع قديم كعهد البشرية نفسها. يستند هذا التنافس الدائم إلى التشابك بين جسد يحمل بصمات الحيوانية، وذكاء غريب عنه، دخيل، يمكننا أن نسميه وعيًا أو روحًا. هذان المكونان يلتحمان ليشكلا كيان الإنسان، حلبة للصراع بين الرغبة والضبط، بين الحرية والنظام.

اننا نعيش اليوم، في عصر يمكن توصيفه بالغنوصية البورجوازية المتطورة، حيث تتغلغل مفاهيم الـ"Artificial Gnosis" جوهر تفكيرها وتجلياتها العملية. هذه النخبوية، سواء في ثوبها القديم أو الحديث، تشير إلى افتراض أن العالم المادي غير حقيقي، وأن الإنسان قادر على تجاوز هذه الحياة الدنيا، مستعينًا بمعارف وتقنيات—سواء كانت باطنية أو تكنولوجية—تقتصر معرفتها على قلة، ليبلغ بذلك أفقًا أرحب من الوجود.

الغنوصية الحديثة تُطل علينا برؤى مستقبلية متجسدة في أجندات "Transhumanism" وال"Singularity"، حيث تتأرجح البشرية في العشر سنوات الاخيرة على أكتاف ال"Big Tech" و بين أرجل ال''Big pharma" و صناعة الجندر، ساعية نحو تحررها من قيود الطبيعة، نحو المزيد من الانفصال والهبوط من عدن "eden"، في محاولة لخلق مستويات جديدة من الوعي والوجود. ومع ذلك، تنبعث من هذا الطموح رائحة النوايا الإمبريالية والأهداف المشوهة، التي تكمن وراء الواجهة البراقة لهذه الرؤى.

إن الإنسان، في سعيه القهري نحو الحرية والتجاوز، يعكس حالة معقدة من الانفصال والتمايز عن جذوره، مستغرقًا في محاكاة لا نهائية للواقع، يحاول بها تجاوز حدود الرياضيات القهرية التي تضع طوقًا حول إمكاناته. يكشف هذا عن حقيقة مفادها أن كل تقدم ثوري يقوم به الإنسان لا يعدو كونه محاكاة للطبيعة نفسها. مثل كيف كان يصنع آلات الغسيل عبر ملاحظة حركة زعانف السمك، أو عندما يصنع طائرة عبر التأمل في الطيور.
بنفس النزعة البسيطة نشاهده يحاول من جديد محاكاة ما سماه حيناً ما بماوراء الطبيعة، بسبب جهل وظيفي للحقيقة التجاوزية للطبيعة، يحاول محاكاة أنماط الارتقاء باستعمال التكنولوجيا، كأسهل وأسرع وأرخص طريقة لرفع تردد الوعي  وضمان الاستمرار تحت تهديد الطبيعة والفناء دون أن تضطر هذه النخبة للتضحية بشعورها بالألوهية عبر الخضوع لإله أكبر.
يجعلني هذا أفكر في التسبيح الإسلامي  "الله أكبر"، و كأنه لطالما كانت حاجة ملحة إلى التذكير بأن هناك قوة أعظم من الإنسان، صمام أمان يحمي الفرد من الانجراف نحو الغرور الذي قد يولد من الشعور بالعظمة المطلقة. يقف هذا التسبيح كتذكير بأن الطموح نحو التجاوز لا يجب أن يقودنا إلى نسيان مكانتنا في الكون.  ضد حالة حتمية يتأثر فيها الفيض الرباني المنفوخ داخل الإنسان بحالة الإنفصال.

لكن، كما تعلمنا من التاريخ، هذا التأرجح بين الأفكار والمعتقدات ليس بالجديد. إنه يعكس الطبيعة الديناميكية للحياة البشرية، حيث يبحث كل منا عن معنى وغاية في هذا الوجود. وفي هذه العملية، نجد أنفسنا متورطين في مشروع النظام العالمي الجديد، حيث تتلاشى الحدود بين الدولة والشركة، وبين الإنسان والآلهة التي صنعها بيديه.

مع ذلك، تظل الأرض، بكل صبرها وحكمتها، تنتظر لحظة التوازن الحتمية. إن ال"Reset" الكوني، ذلك التصحيح الذاتي لمسار البشرية، يبدو كحتمية تاريخية، ضرورة لاستعادة التوازن وضمان استمرار الحياة. في هذا السياق، يتجلى أن رحلتنا في البحث عن الحقيقة والمعنى هي جزء لا يتجزأ من حركة الكون الأوسع، حيث كل لحظة من الوعي والإدراك تقربنا خطوة نحو فهم أعمق لمكاننا في هذا النسيج الكوني المعقد.

اعتناق هذه الحقيقة يفتح أمامنا أبواب الإدراك لجمال الحياة وعظمة الوجود، ويملؤنا بتقدير عميق لهذه السيمفونية الكونية التي نعزف فيها دورنا. إنها تمنحنا الفرصة لننظر إلى مسرح الحياة بنظرات مجددة، تتوق لاكتشاف العجائب في كل زاوية وتجلي. تدعونا لنعيش في انسجام مع النغمات المتنوعة للوجود، متنقلين برشاقة بين معزوفات الفكر ورقصات التجارب، في رحلة باحثة عن مرفأ السكينة، ذلك المكان الخفي حيث تذوب حدود الذات في ملكوت اللانهاية.

-M