Advertisement

Main Ad

خريف... حين تسقط الأرواح قبل الأوراق.

سبتمبر مجددا.. يدعونا الشارع لحفلته السنوية للوجوه المرهقة ، تلك الوجوه التي تهيم في فضاءات المدينة كأشباح الماضي، تختفي خلف أقنعة صفراء تذوب تحت شمسٍ خافتة، يكشف عنها الخريف بتأنٍّ وكأنه يرثي ألوانها. اصفرار كينوني يكسو الأرواح قبل أن يغزو الأوراق، كأنما سبتمبر يبعث برسالة غير مرئية، تتحدث عن تهاوي الأقنعة الصيفية المتلاحق، عن سقوط مدوٍّ لحقيقة مؤقتة اختبأت طيلة ثلاث أشهر في زيف الإجازة.

ثلاثة أشهر كاملة من ادعاء الكادحين بأنهم في عطلة، وفي الحقيقة، لم يكن صيفهم إلا هدنة غير معلنة بين نبضات الحياة وعبثية الوجود. وها هم يعودون، مترنحين على أسياف الروتين، لترميم عجلة النظام الذي لا يرحم. وكأنهم يمضغون الوقت في مضغ متواصل، يخيطون خيوط حياتهم بقطن هشٍّ لفَّته دوامة من بؤس. تلك الدوامة التي تلتهم ما تبقى من أحلامهم، تحيلها إلى رتابة جديدة، أكبر من سابقتها، تجرهم معها في مسيرة بلا نهاية.

أما أنا، وكعادتي! يزعجني بغرابة أنني لن أحضر هذه الحفلة هذا العام. الغريب في الأمر أنني بدأت أنحاز إلى سحر الزخم اليومي الصباحي الذي يجمع العائلات، رائحة الشواء التي تتسلل من أفواه الغابات، تلك الألفة التي تسكن الموجات الراحلة للبحر، وكأن آخر رمق من الصيف يحاول أن يُمسك بيدينا قبل أن يودعنا.

يستمر هذا الفصل في خداع العامة، تواصل أوراق شجرة التوت ادعاء الوهن، ما زال الحر مصرا على إبهار الطيور الراغبة في الهجرة، تستأنف سحابات الجنوب عملية المماطلة، ينطلق العشاق في ابتكار أساليب جديدة للرحيل. وكأننا جميعًا متواطئون في هذه الخدعة، نتظاهر بأننا نعيش زمنًا آخر، رغم أن أوراق شجرنا لا تزال خضراء والسماء لم تقرر بعد أن تبكي أمطارها.

لقد أصبحنا ندفع ثمن الخريف، أجل، ليس هناك شك في ذلك. كما لو أن الاستمتاع بفصول الطبيعة قد أصبح ضربًا من الترف. رائحة الحقيقة تملأ صدري حين أستمع إلى أغنية "إكسبلوررز" لـ"ميوز". تتركني تلك الكلمات التي ينشدها بيلامي: "لم يتبقَّ شيء لي ولك" في حالة من التأمل العميق. هل يعكس هذا الجملة التي ترتد علينا كل عام، عندما نتواجه مع لحظة الحقيقة، وندرك أن سبتمبر ليس مجرد شهر في التقويم، بل هو حديث الزمن عن الوجود والزوال؟

سبتمبر يؤرقني عامًا بعد عام، وكأنه حكيم يقف عند بوابة الفصول، يسرد لي بحزن متأمل كيف أن الحياة تتبدد بين أيدينا، مثل أوراق الشجر التي تتساقط بصمت. يهمس لي: "الحياة أثمن مما نعيشه، والوقت أقسى من أن نختزله في روتين عابر". يكرر هذا المعنى وكأنه يريد أن أستوعب أن ما نعيشه ليس إلا جزءًا صغيرًا من الحكاية، وأن الحقيقة تكمن في تلك اللحظات التي تمر دون أن ندرك قيمتها. كل خريف يذكرني بأن ما يتساقط منّا ليس الأوراق فقط، بل أيضًا قطع من أرواحنا التي تهرم مع الزمن.

وفي هذا التأمل، أتذكر مقولة سورين كيركغارد: "الحياة يجب أن تُفهم إلى الوراء، لكنها تُعاش إلى الأمام." أليس هذا ما يحدث كل خريف؟ نعود إلى الوراء، نراجع حساباتنا، نخلع أقنعتنا، ولكن في النهاية، نُجبر على المضي قدمًا، على مواصلة الدوران في دوامة الحياة. الخريف، في جوهره، ليس موسمًا، بل لحظة وجودية تحملنا نحو إدراك أعمق لزوالنا. كيركغارد كان محقًا، سبتمبر يعيد ترتيب أوراق حياتنا، يقلب الصفحات الماضية، ويذكرنا بمرور الزمن، لكننا نواصل السير، نحو ما لا نعرفه.

هنا نحن في الخريف الان، لكن الخريف الحقيقي ليس في تهاوي الأوراق، بل في المسافة الممتدة بيننا وبين ذواتنا. مسافة من الفراغ الوجودي، كأنها نفق يعبره الجميع، انه في استيقاظ الأسئلة التي طالما أجلتها، وتلك المسافة التي تفصلني عن نفسي، مسافة تحاصرني بين ما كنت عليه وما أبحث عنه. والآن، بدلاً من رعاية غرباني التي تقبع في القفص، أجد نفسي أرعاها داخلي، أفتح لها أبواب السماء لعالم لم أكتشفه بعد.

-M.