تستمر الطبيعة في استدعاء الحزن بكل فصولها، وكأنها تقرع أبواب السماء بأجراس نحاسية صارخة، تسحب ضوء الربيع إلى متاهات الصمت، وتبسط ظلال السببية على مساحات الوجود. في تلك الظلال تنمو مخاوفنا، تلك المخاوف التي تبدو كأحزان متكررة تزورنا يومياً، لكنّها ليست سوى أقنعة واهية، واجهات خادعة تُخفي تحتها أعماق العالم السحيقة ، سرٌ قديم يهمس في أذن الوجود أن لا شيء يكتمل إلا بنقصٍ ما، وأن الفرح الذي نركض نحوه ما هو إلا انعكاس باهت لظلٍ أعمق لا يُرى.
الحزن الحقيقي، الصادق، لا يتأتى من حدثٍ عابرٍ أو واقعة بعينها. الحزن المحض لا ينشأ من سياقٍ أو نتيجة لسببية عابرة؛ بل هو جزء من تكويننا ذاته، دمٌ مسفوح منذ ولادة العالم، مرتبط بجوهر الوجود. لهذا السبب تجدني أجد في الحزن جمالية خفية، جمالية ذكورية ذات أبعاد قاسية، كالشلالات اليابانية القديمة التي تنساب من جبال منسية، حاملة معها بؤساً نبيلاً، أصيلاً.
وفي تلك اللحظات التي يتلبسني فيها الحزن، تتدفق التأملات كما تتدفق مياه الشلالات من أعالي الجبال، وكأنني أتماهى مع الفكرة الهيغلية بأن الصراع بين الأضداد هو الذي يولد الحقيقة. ففي قلب المواجهة بين الحزن والأمل، يتجلى الجوهر، وتتضح الرؤية. تمامًا كما تزهر الأزهار بعد شتاء مرير، فإن الألم، بكل ثقله، يحمل في طياته بذور التحول. العاصفة التي تكسر الأغصان لا تدمرها، بل تفسح المجال لنموٍ جديد، كأن الألم هو معلمنا الأول، يقودنا إلى فهم أعمق للحياة، يكشف لنا عن صور إبداعية لا يمكن أن تولد إلا من رحم المعاناة.
وعندما تجدني أحياناً في زاوية أتغمغم أسفاً، فما أعيشه ليس إلا نتيجة لتفاصيل حياتية عابرة، خذلان مؤقت، أو مواجهة مخزية مع البشر. تلك الأحزان السطحية ليست سوى ضجيجٍ يتسلل إلى الروح، لا يمتّ إلى الحزن الحقيقي بصلة. الحزن النقي لا يؤذي، لا يخترق الروح بحدة، لكنه يصبح ساماً حينما يلتف بين أهداب السببية المادية للحياة.
العيش مع الحزن الحقيقي يشبه العيش مع جسدٍ، جسدٍ نشعر بوجوده ثقيلًا ولكنه يملأنا بنشوة خفية. قد يعتقد المرء في لحظاتٍ كثيرة أن حياته داخل هذا الجسد، داخل هذا السجن الفيزيائي، لا تطاق، لكن هذه الحياة تحمل في طياتها لذة خفية. هناك شيء مريح في التسليم، في قبول هذا الحزن الذي لا يستند إلى شيء. لهذا السبب، لا أمانع الغرق في الحزن، بل أرغب فيه، ولكن ليس كاستجابة لحدث معين، بل كحالة من التأمل العميق في جوهر الوجود.
الحزن الحقيقي، إذن، هو ذلك الشعور الذي لا يحتاج إلى مبرر. هو ما يملأنا، لكنه لا يحكمنا. لا أريد أن أجعل من الحب سببًا لأحزاني الطويلة، لأحزاني الأبدية، لأحزاني المميزة. أريد أن أعيش الحزن بصفائه، دون أن يكون مدفوعًا بقوى خارجية أو تحت وطأة اللحظات العابرة.
ومع ذلك، هناك في نهاية هذا الحزن لحظة وعي، لحظة إدراك عميق، كأن الحزن في جوهره، مثل كل شيء آخر، لا يمكن أن يستمر إلى الأبد. وكأننا، في أعمق لحظات الحزن، نقف على حافة إدراك جديد، كما لو أن ستارة مسرحية قد أسدلت، لتفتح أخرى. في تلك اللحظة، لا يعني الفرح الغياب الكامل للحزن، بل يعني التحول—تحول الأحزان من عبء إلى حكمة، من قيدٍ إلى حرية خفية.
-M.