Advertisement

Main Ad

نظرية الألعاب: توازن الحياة بين الحظ والقوانين الخفية.

الحياة.. لعبة غير مرئية، مُصمَّمة بقواعد خفية.

إننا نسير في هذا العالم وكأننا نمتلك السيطرة، لكن واقع الأمر أننا نتحرك ضمن شبكة معقدة من التفاعلات، تحكمها ما يمكن أن نسميه قوانين الوجود. وفي عمق هذا الغموض، يمكن أن يسطع مفهوم "اللعبة". 

ليست لعبة بالمعنى التقليدي، لكنها أقرب إلى ما يُدرَّس في "نظرية الألعاب" Game Theory، أحد أعقد الفروع في الرياضيات.

ما نتخيله حياة حرة ومستقلة لا يعدو كونه جزءًا من لعبة أكبر، أشبه بـ Zero-Sum Game، حيث كل قرار أو حركة يعيد تشكيل توازن القوى بين "الرابح" و"الخاسر". إنه نظام مغلق، حيث الربح يتبع الخسارة، والعكس، فلا وجود لزيادة أو نقصان في مجموع الفائدة الكلية.

الكون محدود، القوانين التي تحكمه واضحة، منطقية في تعقيدها، والموارد شحيحة. كل معاملة Transaction بين البشر تحمل واحدة من ثلاث نتائج: إما أن تربح (+)، تخسر (-)، أو تعود إلى نقطة الصفر، تائهًا في دوامة التوازن المسمى Equilibrium.

هذه الفكرة لا تقتصر على العلاقات الشخصية أو الاجتماعية، بل هي جزء من نسيج الحياة اليومية. نعيش في عالم محدود الموارد، نرى ذلك في الاقتصاد والسياسة، حيث كل ربح يتم على حساب آخر. لكن الأمر يتجاوز إلى الطبيعة نفسها التي تعمل وفق قانون الحفظ، حيث حدود واضحة لأي تحويل أو انتقال للطاقة. وهنا يظهر مفهوم آخر من نظرية الألعاب، Nash Equilibrium، حيث يتمسك كل "لاعب" بموقفه طالما أنه لا يمكنه تحقيق نتيجة أفضل بمفرده.

لكن ماذا عن حياتنا خارج هذه المفاهيم الرياضية؟ في كل لحظة نتخذ قراراً، نرسم مساراً ضمن احتمالات لا متناهية، ما يجعل وجودنا أشبه بـ Multiverse من الخيارات التي تفرز تفرعات لا نهائية، لكنها تظل مقيدة بقواعد، كحركات الشطرنج التي تنطلق ضمن مجموعة محددة من الاحتمالات.

ما يجعل الحياة تستمر رغم هذا التوازن الصارم، هو مبدأ ذو بعد فلسفي أعمق : مبدأ "الفعل الأدنى" The Principle of Least Action. الكون لا يبذل أي جهد زائد، كل شيء يسير في أقل المسارات تعقيدًا، مما يتيح للحياة أن تخلق نفسها من تراكمات بسيطة ومعقدة في آن واحد. الحياة لا تُعطي ولا تستثمر دون مقابل، بل هي مجرد حقل لا نهائي من التبادلات. هنا نتساءل: هل هناك شيء مستقل؟ هل نملك حقًا أي شيء بالكامل؟ الجواب بسيط: لا. كل امتياز نحققه يأتي على حساب آخر. حين تقبل في وظيفة، تستبعد شخصًا آخر كان يحلم بها. حتى في أكثر لحظاتك سوداوية، قد يستفيد شخص آخر من غيابك.

كل شيء مترابط، وكل فعل نقوم به، سواء بوعي أو دون وعي، يؤثر على حياة الآخرين بطرق معقدة وغير مرئية، لا يمكن لأي نموذج رياضي أن يتنبأ بها. هذه هي جوهر نظرية الفوضى Chaos Theory وتأثير الفراشة Butterfly Effect. قد تكون حركة جناح فراشة في الصين هي ما يغير طقس نيويورك. وبالمثل، قرارات أشخاص لم ولن تراهم، ربما عاشوا قبل قرون، تؤثر على قراراتك اليوم.

الوقوع في مغالطة "التحكم" Illusion of Control يجعلنا نظن أن كل شيء تحت سلطتنا، وأن نجاحاتنا هي حصاد جهدنا الخالص. لكن الحقيقة أن الكون مليء بملايين المتغيرات التي لا يمكننا الإحاطة بها. الأحلام التي نرسمها لأنفسنا هي نتاج لتجارب الطفولة، العقل الجمعي، والثقافة التي تشربناها. ليست "أحلامك" بالمعنى الحرفي، بل انعكاس لمئات العوامل المتراكمة عبر الزمن، فهي feedback loops ، جزء من منظومة عملاقة من العلاقات التي تربطنا بالعالم الخارجي.

ثم يأتي الحظ. ليس عاملًا بسيطًا، بل قوة خفية تعمل في الخلفية، تحفظ التوازن بين الفوضى والنظام. ربما نجحت في امتحان لأنك درست بجد، لكن أيضًا لأن سائق شاحنة لم يكن مخمورًا و دهسك في يوم الامتحان. الحظ يلعب دورًا أكبر مما ندرك، وربما أكثر مما نرغب في الاعتراف به.

في النهاية، كل فعل وكل قرار نتخذه جزء من لعبة كبرى، تخضع لقوانين الكوارث والحظ والاحتمالات. لكن أن ندرك هذه الحقيقة، وأن نكون على وعي بالحظ، أو "العناية الإلهية" كما قد يسميها البعض، هو جوهر وجودنا.

وفي خضم هذا التعقيد، العلاقات الإنسانية نفسها تتأرجح ضمن هذا التوازن. الحب، الطموح، الغيرة، وحتى التعاطف ليست سوى تفاعلات كيميائية تتأثر بتعقيدات نفسية أعمق. فنحن نحب وفق شروط اجتماعية، ونغار بنمط مبرمج، ونحلم بما قيل لنا إنه "ممكن". حتى طموحاتنا ليست حرة تمامًا، بل هي حلقات تغذية راجعة مرتبطة بمنظومة اقتصادية وثقافية ضخمة.

هنا يظهر مفهوم Meritocracy هشًا. نعم، الجهد مهم، لكنه ليس وحده العامل الحاسم. إنها لعبة Probability Distributions، حيث النجاح يتوزع بين الجهد، الصدفة، والحظ. قد تعمل بجد لعقود وتفشل بسبب ظرف خارج عن سيطرتك، أو ربما تنجح بصدفة غير متوقعة. أشبه بمحاولة التفوق في سباق لا تعرف أين نهايته، وكلما فهمت قوانينه، تأتي صدمة جديدة تعيد ترتيب أولوياتك. فلا شيء في الحياة يمنحك ما تستحقه فقط بناءً على جهدك هناك دائمًا متغيرات أخرى تتداخل، تؤثر في النتائج، وقد تأخذك إلى أماكن لم تتوقعها. العالم لا يعمل وفق قوانينك الخاصة، بل هو أكبر بكثير، أعقد بكثير وربما هذا الإدراك هو ما يدفعنا في أعماقنا إلى مشاعر مثل الحسد، الحقد المكر. هذه المشاعر ليست عبثية، بل هي جزء من نظامنا العاطفي المعقد، الذي يتعامل مع كل شخص كمنافس محتمل، كعائق يجب التخلص منه.

لكن هذا التعقيد ليس سببًا للإحباط. بل هو ما يجعل الحياة جميلة. فالتعقيد ليس عدو الفهم، بل هو مصدر الجمال، كما أن الفوضى الطبيعية هي التي تجعل الغابات كثيفة، والأنهار متعرجة، والسماء مليئة بالنجوم المتوهجة. Entropy، كمفهوم فيزيائي، قد يُنظر إليه كعدو للنظام، لكنه مصدر الحياة. بدون هذا القدر من الفوضى، كان كل شيء سيبقى راكدًا وثابتًا. حتى في لحظات التردد، هناك انسجام خفي يتسلل عبر الأشياء. مثلما تسير الطبيعة وفق قوانينها، تتشكل حياتنا من تفاعل الفرص والاحتمالات.

فهل نحن أسرى لمصائرنا؟ ربما. لكن في تلك اللحظات التي نشعر فيها بأننا نملك زمام الأمور، نختبر نوعًا من الحرية الخفية، تشبه الحركات الاستراتيجية في Prisoner’s Dilemma؛ حيث نجد أننا، رغم القيود، قادرون على اتخاذ قرارات تحمل معنى أعمق. هنا، تصبح الحياة أشبه برقعة شطرنج، كل حركة خطوة نحو المستقبل، محاولة لإزالة تهديد قبل أن يحدث.

إذن، هل يمكننا الفوز في هذه اللعبة؟ ربما. لكن ما نعلمه حقاً هو أن الحياة، بكل تعقيداتها، ستظل مليئة بقواعد خفية ومتغيرات خارجة عن سيطرتنا. وما يجعلها تستمر هو غياب وعينا بهذا التحدي؛ حيث يتشابك الجهد مع الحظ، ويذوب الحلم في الواقع، وتتقاطع الفوضى المطلقة مع المنطق في لوحة لا نراها بالكامل.


-M.