Advertisement

Main Ad

العالم وراء زجاج النظارة..

 في صباحٍ هادئٍ كأنه استيقظ على أطراف حلم، امتدت يداه بلا تفكير إلى الطاولة الصغيرة بجانب السرير، حيث تعتاد الأشياء أن تكون في أماكنها. لم تلامس أصابعه سوى الفراغ. أغمض عينيه قليلاً، وكأنما يحاول استدعاء الصورة التي لا تزال عالقة في ذاكرته: نظارته السوداء، مستقرة، وديعة، كما كانت دائمًا. لكن الفراغ لم يزُل.

فتح عينيه ببطء، وألقى نظرة متأنية حوله. بدا كل شيء كما هو، لكنه شعر بأن شيئًا ما تغيّر، ليس فقط في الغرفة، بل في نفسه. لم يكن ضياع النظارة حدثًا يستدعي القلق. كان أشبه بمزحة لطيفة من الصباح، كأنه اختار أن يختبر مدى صبره ودقته اللذين طالما اعتز بهما، أو ربما إشارة صغيرة بأن الوقت قد حان لتفكيك روتين الأيام المتشابكة، ولو للحظة.

كان في الأمر تلك اللمسة العبثية التي وصفها كامو بأنها الوجه الآخر للحياة، حين تصبح التفاصيل المألوفة فجأة غريبة، وكأن العالم يريدك أن تراه بعين مختلفة.

حين جلس على السرير في تلك اللحظة الغريبة، بدأ في استرجاع الأحداث بحرص، ليس فقط لتحديد مكان نظارته، بل ربما لشيء أعمق. وكأنه، للمرة الأولى، يسائل الأشياء التي حوله: ما الذي تفعله هذه القطعة الصغيرة من الزجاج والمعادن حين لا أضعها على وجهي؟ هل يمكن أن تكون لها حياة، فكرة، أو حتى رغبة؟ هل الأشياء التي تبدو هامشية تحمل في صمتها أبعادًا غير مرئية؟ أليس كل كائنٍ، كما قال هايدغر، يتخفى خلف حجاب من الغموض حتى ننتبه له؟ كانت الفكرة تبدو عبثية، لكنه في داخله، شعر بأنها تحمل وزنًا ما.

النظارات ليست مجرد أداة. إنها حدٌ فاصل بين عينيك والعالم، قطعة صغيرة تربط بين ما هو داخلك وما هو خارجك. لكن ماذا لو لم تكن مجرد وسيط؟ ماذا لو كانت النظارة نافذة على طبقات من الحقيقة لم ندرك وجودها؟ في ذلك الصباح، لم يبحث الرجل عن نظارته ليجدها فقط، بل ليواجه العالم من دونها، ولو للحظات.

 عاش سنواتٍ كثيرة وهو يقاوم فكرة أن تصبح النظارات ضرورة لا يمكن التخلي عنها. كان يظن دائمًا أنه قادر على التكيف مع ضبابية العالم من حوله، وأنه يمكنه أن يتعامل مع عدم وضوح الصورة كما لو أنها جزء طبيعي من الحياة. لكن في كل مرة كان يخلع نظارته، كان يكتشف كم أن العالم مختلف من دونها. لم يكن الأمر يتعلق فقط بالحاجة الفعلية لتوضيح ما أمامه، بل بتلك الفجوة التي تتركها النظارات في غيابها. كانت عيناه بحاجة إلى دعمها، إلى تلك العدسات التي تمنحه القدرة على رؤية كل شيء بتفاصيله الدقيقة، لكن دونها، كان يعيد اكتشاف العالم كما لو أنه لم يعرفه من قبل.

وفي ذلك الصباح الهادئ، بدأ يتساءل: هل كان العالم هو الذي يحتاج إلى نظارته ليراه كما هو، أم أن هو نفسه كان بحاجة إليها ليعي ماهية ما يراه؟ وكم كان من الغريب، في تلك اللحظات، أن لا يرتديها. ماذا يحدث حينما لا تلتقي عيناك بأطر العدسات؟ هل يصبح العالم أكثر اتساعًا، أكثر غموضًا، أم أنه يتحول إلى مكان أقل اكتمالًا، يشعرك وكأنك في أرض من النقص؟ هل كانت النظارة هي الرابط الخفي بينه وبين الثابت في هذا الكون، أم أن غيابها كان يفتح أمامه أبوابًا لرؤية أخرى، ربما أبعادًا كانت محجوبة خلف التفاصيل التي لا تُرى إلا من خلال ذلك الزجاج؟

حين بدأ يتأمل الأماكن التي مر بها في صباحه ذاك، أدرك أن رؤيته لم تكن فقط أقل حدة؛ بل إن الأشياء نفسها بدت أقل استعجالًا في كشف حقيقتها. كما لو أن النظارة كانت تختصر العالم بطريقة ما، تجعله أكثر وضوحًا، لكنه وضوح يفقد معه بعض التعقيد الجميل. الآن، بدت الأشياء مختلفة؛ ليست غامضة تمامًا، ولكن كأنها تهمس بدلاً من أن تصرخ.

للنظارات، ككل الأشياء، شكلان: ما نراه منها وما تخبئه عنا. إنهم لا يعرضون لنا العالم فحسب، بل يحددون كيف يجب أن نراه. ومن هنا تساءل الرجل، في لحظة استسلامٍ نادرة: كم من الأشياء التي نعتقد أننا نراها بوضوح هي في الواقع انعكاسات لرغباتنا، أو ربما خدعٍ بصرية تعلمتها عقولنا لتمنحنا الأمان؟

ثم جاءت الفكرة الغريبة، تلك التي جعلته يضحك بصوت خافت: ربما نظارته لم تضِع فعلاً. ربما هي فقط قررت أن تختفي، ولو ليومٍ واحد، لتذكره كيف يبدو العالم عندما لا تُخضعه لأي قواعد. ربما، بطريقة ما، كانت تقول له: "انظر لي وللعالم من زاوية أخرى. جرّب أن ترى الأشياء بعينيك وحدهما، لا من خلالي".

في تلك الفكرة، كان نوعٌ من السخرية الرقيقة؛ أن يصبح الإنسان فجأة أداةً لأدواته. أن تتحول الأشياء التي نملكها إلى مرآة تعكس هشاشتنا، لكن بطريقة لا تخلو من ذكاء. ربما كانت النظارة تمارس نوعًا من "التمرد الصامت"، كما وصف ديكارت مرة العلاقة بين شيئين، حين ‏يرفض الأول أن يكون مجرد أداة بيد الثاني.

حين عاد إلى الغرفة، ورأى النظارة أخيرًا على الطاولة، بدت له مختلفة. لم تكن مجرد قطعة معدنية بعد الآن. لقد أصبحت رمزًا، أو ربما شريكًا صامتًا في رؤيته للعالم. كان يعلم أن العالم لم يتغير خلال تلك الساعات، لكنه هو الذي تغيّر، ولو قليلًا.

بدأ يفكر، ماذا لو أن جميع الأشياء حولنا لديها أسرار صغيرة لا تُقال، لكنها تُعرض أمامنا بصمت؟ ماذا لو أن المفقودات لم تُفقد حقًا، بل اختارت أن تهرب، لعلنا نفكر في قيمتها بجدية أكبر؟

ربما لم تكن تلك النظارة مجرد وسيلة لتحسين رؤيته، بل دعوة لرؤية مختلفة، ليست حادة كالعدسات، لكنها أكثر عمقًا. رؤية تترك مساحة للفراغ، للغموض، للفوضى التي تشكل جزءًا كبيرًا من الحقيقة.

في النهاية، كان السؤال الذي بقي معلقًا في ذهنه: هل فقد النظارة أم أنها فقط أرادت أن تعلّمه أن ينظر؟

 - M